البلاغة العربية ، الأصول وَالامتدادات (3)
۱ - بمراجعة مفهوم البلاغة المهيمن. وتعيد إلى هذا العلم الأرض التي استُلبت منه فحولته من إِمبراطورية مترامية الأطراف إلى مجرد إمارة محصورة داخل أسوار منيعة متمنعة. إن التصور السائد حاليا و منذ قرون هو، تصور السكاكي، هو قراءة السكاكي للتراث القديم، وهي قراءة مشرعة ولكنها مشروطة بظروف. و قد صار السكاكي اليوم، ككل القدماء، جزءاً من التراث البلاغي، فينبغي أن يدمج فيه قبل القيام بقراءة جديدة. ومن يومها سيُدرس (البيان، والمعاني، والبديع) كتصور لمدرسة لا كصورة كلية نهائية للبلاغة العربية.
ولا أقل من أن يقدم بجانبه مشروع حازم القرطاجني الذي يفتح البلاغة على النقد الأدبي، وعلى كل المقومات الفلسفية واللسانية والشعرية التي تسنده.
۲ - و تسمح بنقل الرصيد البلاغي من وضعية البنية التاريخية الجامدة المرتبطة بعصرها إلى حلقة من دينامية الأسئلة الإنسانية التي يتصل أولُها بآخرها تجاورا وتعارضا وتقابلا: حيث نجد البلاغة في تجاذب مع الشعر والنحو والمنطق: انزياحٌ مستمر، و نزوع إلى الإنبناء ككيان قائم الذات. ومشروعَا السكاكي وحازم كفيلانِ بهذه المهمة.
3) وتسمح أخيرا بإعادة الارتباط بين "البلاغة" وتاريخ الأدب والنقد أي بالحركة الدائرة حول النصوص الحية وعملية الإنتاج.
ليس من الغريب أن تجمُد البلاغة بعد أن صارت تدرس بعيداً عن تاريخ الشعر وما ينتابه من تطورات شكلية عامة أو فئوية (الأراجيز والموشحات مثلا بل والزجل أيضا) وتدرس بعيداً عن المعارك النقدية، وتطور مفاهيم النقد، والحال أنها في ارتباط وثيق بهذه المجالات، ارتباط تداخل لا تقارب.
إن مركز الجذب و المحور المستقطب في منهاجية هذا البحث هو الكشف عن الأسئلة والأجوبة والكشف عن المشاريع والمنجزات.
ب ـ خطوط الطول والعرض:
البحث عن الأنساق.
لقد اقتضت طبيعة العرض المفصل للمؤلفات البلاغية وبناء القضايا المنفصلة وتتبع بنيات الكتب انقطاعَ الخيوط الواصلة بين المفاهيم والقضايا العامة أحيانا، أو على الأقل، صعوبة استيعابها قبل الانتهاء من قراءة الكتاب ككل. وهذا الأمر مرهق وغير مضمون العواقب في عصر السرعة، فمَنْ ذا يستطيع اليوم حبس نفسِه حتى ينتهي من قراءة فصولٍ كاملة، بل حتى الانتهاء من الكتاب ليعيد آخره على أوله؟ إن لم تنقرض هذه الفصيلة من القراء فقد صارت نادرةً. لذلك رأيت أن تكون هذه الفقرة من المقدمة توصيلا للخيوط، وعقداً لأطراف الكلام، بقدر ما هي كشف عن منهجية البحث في الكتاب.
ب ـ 1 ـ المشاريع والمنجزات
لقد تقوى مفهوم النسق والبنية في البحث العلمي العربي منذ البداية، عندما غلب القياس على الرواية. القياس الذي يقوم على استقراء الظواهر واستخراج نظامها الخفي الذي يترجمه الاطراد.
كان الوصول إلى النسق الإعرابي: الفاعلية والمفعولية والظرفية، وما إلى ذلك من الأنساق المطردة، وكذا كشف النسق الصرفي والنسق العروضي دعماً حاسماً للاتجاه النسقي في التفكير العلمي العربي، وكان من أعراضه وظواهره البحث في العِلل والأسرار. فألفت كتب كثيرة في علل النحو في وقت مبكر، كما ألفت كتب تحت عناوين تبدأ بسِر أوأسرار في اللغة والبلاغة. منها سر صناعة الإعراب لابن جني وسر الفصاحة لابن سنان وأسرار البلاغة للجرجاني[7].
وترتب عن ذلك البحثُ في القواعد والكليات، كما نجد في القراءة العربية لفن الشعر لأرسطو. فقد صرح الشراح الملخصون: الفارابي وابن سينا وابن رشد جميعاً أنهم سيقتصرون على البحث في القواعد العامة والكليات. هذا فضلا عن وجود كتب مبكرة نسبيا في نقد الشعر تحمل هذا الهم مثل قواعد الشعر لثعلب أو تمارسه دون التصريح مثل نقد الشعر لقدامة.
ورغم هذا الحرص المبكر على البحث في البنيات والأنساق فسنجد من المتأخرين مَن يصرح، بعد ذلك، بأن الدراسات المنجزة في البلاغة قبله دراسات جزئية تهتم "بالظواهر" وأَنَّ جِدَّةَ مشروعه تكمن في "التكلم في كثير من خفايا هذه الصنعة ودقائقها"[8]. فالهم النسقي كان حاضرا في أعمال البلاغيين العرب.
لقد قادني البحث في موقع الموازنات الصوتية من الرؤية البلاغية في عمل سابق مطبوع إلى تكوين تصور عام عن مسارات البلاغة العربية وخلفياتها الفكرية والأيديولوجية، كما قادني إلى اكتشاف الفروق بين المشاريع والمنجزات وما يؤدي إليه ذلك من تضارب بين منطوقِ نصوص من المؤلَّف البلاغيِّ الواحدِ. وبدأ يزعجني ما أسمعه في الندوات العلمية من استشهادات بنصوص منتزعة من النسق، لا نَعْدِمُ في المؤلَّف الذي أخذت منه ما ينقضُها أو يخالفها مخالفة صريحة. ولذلك كان من بين همومي الموجهة حين تصديت لإعادة قراءة تاريخ البلاغة العربية استخراج أنساق المؤلفات في حوار بين المشاريع والمنجزات. كان أول عمل لي في هذا الصدد قراءتي لسر الفصاحة لابن سنان في أوائل الثمانينات[9]. فبرغم أني لم أنتبه وقتَها للخلفيات المذهبية المُحرِّكة لابن سنان فقد استفزني تحلُّل الرجل تدريجيا من التزاماته وشعاراته الأولى. انطلق ابن سنان من الجزم بانحصار الفصاحة في الأصوات، ثم انزلق من الصوت إلى اللفظ ببُعديه الصوتي والدلالي، ثم صار إلى المعاني المفردة، أي في استقلال عن الصوت، و ذلك كله تحت ضغط طبيعة الموضوع[10] و ما أنجز فيه قبله.
و ما وقع في مؤلف ابن سنان شبيه بما وقع في بيان الجاحظ، فالمشروع عند الجاحظ هو البيان بجميع أصناف الدلالة على المعاني من لفظ وغير لفظ (الإشارة والخط والعقد والنصبة أي الحال الدالة)، ثم سرعان ما قُويِضَ البيان بالبلاغة ثم قُويضَتِ البلاغة بالخطابة. وتوجه الاهتمام إلى المقام والأحوال و كان تقديم صحيفة بشر عملاً رمزيا حاسما: تقديم البديل. وبالنظر إلى هذا المسار وهذه النهاية نلاحظ أن الجاحظ كان موضوعَ سوءِ فهم من الدارسين بعده سواء أولئك الذين توجهوا توجها منطقيا مثل ابن وهب في كتابه البرهان في وجوه البيان أو من طرف نقاد الشعر. فابن وهب ـ وهو الذي تبنى موضوع البيان بكل حذافيره مستأنفاً القول فيه ـ يعلن بصريح العبارة أن الجاحظ لم يقل شيئاً في موضوع البيان. ثم يتولى هو مهمة مَلْءِ الخانات الأربع في مجال الدلالة وهي: الاعتبار، والاعتقاد، والعبارة والكتاب أي استنباط المعرفة (الاعتبار) ومعالجتها (الاعتقاد) وتداولها (العبارة والكتاب) . لذلك فمن المثير أن نجد بعضَ الدارسين المحدثين يبحثون في عمل الجاحظ عن بلاغة شعرية[11].
ويمكن أيضاً، وفي إطار المشاريع والمنجزات، تأمل عَمل السَّكاكي في مفتاح العلوم، فمن البحث عن "علم الأدب" من خلال النحو والصرف وصلَ إلى ما اعتُبر إبداعًا له يُغطي على غيره، وهو تنظيم علم المعاني وتأطيره. فعلم المعاني الذي جاء لتكميل النحو في تأسيس علم الأدب في مشروع مفتاح العلوم صارَ مركزاً، وصار النحو والمنطق (علم الاستدلال) مجرد خَدَم له. لقد تولَّد علم المعاني، باعتباره لب البلاغة ومركزها عند السكاكي، عبر مخاضَ تفاعُلِ النحو والمنطق والشعر في علاقتها بالمقاصد الإنسانية.
ولعل أهم عملية تحوُّل هي التي مر منها عمل عبد القاهر الجرجاني عبر كتابيه الأسرار والدلائل. لقد راهن عبد القاهر الجرجاني، انطلاقا من تصور أشعري يعتبر الكلام معاني نفسية، و يُعادي مقولةَ المعتزلة التي تجعله أصواتا ومقاطع، راهن، في البداية، على المفارقة الدلالية التي يحققها التشبيه والتمثيل (في مستوى أدنى) وتحققها الاستعارة و التخييل (في مستويات أعلى). وكانت نظريةُ المحاكاة الأرسطية في قراءتها العربية مُسعفة لمثل هذا التصور. غير أنه ما إن وصل بهذا البناء إلى ذروته وقمة تعقيده حتى انتبه إلى أنه غير مُسعف في بيان إعجاز القرآن، سواءٌ من حيث الكم أو النوع. فليس القرآن كلُّه مفارقاتٍ دلاليةً من جهة ، ومن جهة ثانية فإن النماذج العليا من المفارقات التخييلية تقوم على الكذب، وهذه صفة لا تلائم القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
لقد اقتضى هذا المأزق، بعد محاولات ترقيعية غير ناجحة، عبرَ كتاب الأسرار (تمثلت في الدفاع مُوقتا عن الصِّدق، ثم في الحديث عن المجاز العقلي) استئنافَ البحث عن بلاغة تناسب النص القرآني، بلاغة تحضر في النص كله، وتتَّصل بالمقاصد والأحوال. ولم يكن له مفر من البحث عنها في تراكيب الكلام، أي النظم.
ومع ذلك فإن إشكالية المعنى والصوت لم تختف مع التحول من الغرابة الشعرية إلى المناسبة التداولية، واعتماد النحو أساسًا في تحديد العلاقة بين المقاصد والتراكب، بل لقد عادت القضية إلى الطرح والتخريج في قالب آخر؛ عولجت المسألة بصورة شاملة ونهائية في إطار ثنائية المادة والصورة، أو المضمون والصياغة الشعرية. تم ذلك بمقايضة اللفظ في الصياغة النهائية بالصورة أو المعنى الأول الذي ينتقل منه إلى المعنى الثاني.
و هكذا سيلاحظ القارئ تدخل الاعتبارات المعرفية وَ المذهبية وَ المادة المتوفرة، وطبيعة الموضوع في إحداث تحولات داخل عملية البناء النظري. كما سيلاحظ أن هذه الاعتبارات لم تعق أحيانا تكوين تصورٍ منسجم نظرا لاستسلام المؤلف، في الأخير، لطبيعة الموضوع و تغليبها على الاعتبارات الأخرى كما وقع لابن سنان، الذي بنى، عبر عملية تحوله، بلاغة منسجمة تستجيب لكل متطلباتِ المحَافظة الكلاسيكية، عمادها الصحة والتناسب، و تجد مجالا تطبيقيا فسيحا في التراث العربي أكثر بكثير من الذي تجده نظرية عبد القاهر الطلائعية.
مثل خردمندان فكر كنيد اما با مردم به زبان خودشان حرف بزنيد.