قِصَرُ الخُطْبة وطولُها
قِصَرُ الخُطْبة وطولُها
إن الخطبة المؤثرة ينبغي أن تتَّصِفَ بِصِفاتٍ، وتشتمل على مقومات، ومنها قصر الخطبة، غير أننا لا نستطيع أن نحكم على الخطبة بالجودة والتأثير لمجرد كونها قصيرة وحسب، أو نحكم عليها بالفشل لكونها طويلة فحسب، فإن قصر الخطبة وطولها أَمْرٌ تُحَدّده عوامل كثيرة، وتدعو إليه أسباب متنوعة، ورُبَّما وصفتِ الخُطبةُ بأنها جامعةٌ مؤثّرة مستوفية لموضوعها، مع كونها قصيرة لم تتجاوزْ دقائِقَ معدودةً، ورُبَّما وُصِفَت بذلك مع كونها طويلة تجاوزت الوقت المعتاد لمثلها.
وإنَّ مِنَ العَوَامِلِ التِي تَتَحَكَّمُ في وقت الخطبة طولاً وقِصَرًا:
1- طبيعة الموضوع الذي يتناوله الخطيب، وأهميته بالنسبة للمخاطبين، وكونه مما يحتاج إلى البسط والإيضاح، أو يكفي فيه الاختصار والإيجاز.
2- ومن العوامل كذلك سعة المسجد أو ضيقه، وكثرة المصلين أو قلتهم، وكذلك ما يطرأ على الناس من أحوال عامَّة تؤدي إلى اضطراب نفوسهم، واشتغال أذهانهم وعقولهم، وما يستجدُّ من أحداث لها آثارٌ على عقيدة المسلمين، أو أخلاقهم أو أمنهم واستقرارهم.
والخطبة وقت الحرب والدعوة إلى الجهاد تختلف عنها وقت السلم، وهكذا فإن لظرف الزمان والمكان دورًا واضحًا في تحديد الحاجة إلى الطول، أو الحاجة إلى القصر في الخطبة، غير أننا نقول: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد رغَّب في قصر الخطبة وطول الصلاة بجعله ذلك علامة على فقه الخطيب.
روى مسلم في "صحيحه" عن واصل بن حيان قال: قال أبو وائل - وهو شقيق بن سلمة - خطبنا عمار رضي الله عنه فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست- أي: أطلت- فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مَئِنَّةٌ - أي: علامة - من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحرًا))[1].
فقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خصلتين عظيمتين إذا وجدتا في الخطيب تمكَّن من حسن الخطاب، وقوة التأثير، وهما: الفقه والعلم الشرعي الذي يمكنه من أداء الصلاة على وجهها قراءةً، وخشوعًا، وأحكامًا، وأداء الخطبة على وجهها، ثم البيان والفصاحة التي تمكنه من +جودة الخطاب، ورصانة الأسلوب، وسلامة التعبير، لتقع الخطبة موقعها من النفوس.
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: ((كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرجع فيؤم قومه، فصلى العشاء فقرأ بالبقرة، فانصرف الرجل، فكأن معاذًا تناول منه، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((فتان، فتان، فتان)) (ثلاث مرار) أو قال: ((فاتنًا، فاتنًا، فاتنًا)) وأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أواسِطِ المُفَصَّل))[3].
وعن جابِرٍ - رضي الله عنه - أنَّه قال: ((اقرأ: والشمس وضحاها، والضحى، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى))[4].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا صلى أحدكم للناس فَلْيُخَفِّفْ، فإنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ، والسَّقِيم، والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء))[5].
ومع أمره - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بالقراءة بأواسط المفصل، إلا أنَّه كان يؤم الصحابة فيطيل في بعض الأحيان، ويسمع صراخ الصبي وهو يريد أن يطول في صلاته، فيتجوز في صلاته كراهية أن يشق على أمه[6].
وقد نبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((فإن خلفه الضعيف، والكبير، وذا الحاجة)) إلى تنوع الحاضرين إلى الصلاة، واختلاف طاقتهم وقوتهم، ففيهم الشاب، وفيهم الشيخ الكبير، وفيهم المتفرغ من الشواغل، وفيهم العامل وذو الحاجة، فعلى الإمام +أن يراعي هذا التنوع والاختلاف في قدرات الناس.
عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: ((كنت أصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانت صلاته قَصْدًا، وخطبته قصدًا))[7].
روى الترمذي من طريق عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد، جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة)) [8].
ومن المعلوم أنَّ خطبة الجمعة هي غير المحاضرة، أو الندوة، أو الدرس الذي يتطلب البسط والشرح غالبًا، والوقوف عند أهم العناصر والأفكار والاستعانة بكثير من التكرار الذي يساعد على تثبيت المعلومة عند السامعين، وتقريبها.
قال الشيخ عبدالله البسام: "إن قصر الخطبة، وإطالة الصلاة دليل على فقه الخطيب والإمام، فإنه استطاع أن يأتي بمعاني الخطبة بألفاظ قليلة، وبوقفة قصيرة، أما تشقيق الكلام وتطويله فهو دليل على العي والعجز عن الإبانة، فخير الكلام ما قل ودل"[10].
والجمعة ليست مهرجانًا للخطابة وإبراز القدرة على البيان والفصاحة، بل كلمات قليلة تشتمل على التذكرة، والعظة، والتبصرة بالواقع، وترقيق القلوب وزيادة الإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــ
مثل خردمندان فكر كنيد اما با مردم به زبان خودشان حرف بزنيد.