الخطيب وقصص القرآن الكريم (۱)

للقصة تأثيرٌ كبير في النفس البشرية؛ فقارئُها ومستمعها يعيش بكليته مع أحداثها، وتؤثِّر في نفسه إيجابًا أو سلبًا، حسب هدف كاتبها منها، والرسالة التي يريد إيصالها للقارئ أو المستمع عن طريقها؛ ولذلك كثرتِ القصصُ والروايات، وازدهرتْ سوق كُتَّابها، وتنوَّعتْ تنوعًا كبيرًا؛ فقصص للأطفال، وأخرى لمن هم فوقهم، وقصص للمراهقين، وروايات للكبار، ومنها العاطفي، ومنها البوليسي، ومنها المرعب؛ بل منها قصص السحر والشعوذة والخرافة؛ ليسبح قارئها ومستمعها في خيالها، وينبت عن واقعه حال عيشه معها.

ومع الانفتاح الإعلامي عُرِفت كثيرٌ من الروايات الغربيَّة، وأصبح الوصول إليها سهلاً فور إصدارها، ومَن تابَعَ الضجة الإعلامية التي صاحبتْ صدور الأجزاء الأخيرة من رواية (هاري بوتر)، التي كانت مبيعاتها بمئات الملايين من النسخ، وتُرجمتْ إلى ما يقارب سبعين لغةً، أدركَ أثَرَ الرواية والقصة في نفوس البشر، ولو كانت خرافية؛ بل لا يجعل لها مثلَ هذا الصيت إلا كونُها خرافيةً.

ولا غرابة في أن نرى مثل هذه الروايات والقصص، التي أكثرها تعارض ديننا وأخلاقنا وأعرافنا، تتسلَّل إلى بيوتنا، وتفسد دين نسائنا وأولادنا وأخلاقَهم، ومع تطوُّر الصنعة الإعلامية صورت القصص والروايات المكتوبة في أفلام ومسلسلات ورسوم متحركة وغيرها، ولا تَسَلْ عن الإقبال عليها.

وهذا يبرز لنا أهمية القصة وأثرها العظيم، ووجوب العناية بقصص القرآن والسُّنة، وتقديمها للناس، والخطبة من أهم المنابر التي يمكن أن تكون مجالاً لعرض قصص القرآن والسنة؛ للاستفادة منها، والاهتداء بها.

الغرض من القصص في القرآن:
قارئ القرآن الكريم يلحظ كثرةَ القصص فيه، وتنوُّعها في موضوعاتها التي تعالجها، وفي شخصياتها التي تحكي أدوارها وأعمالها، وفي طولها وقصرها، وفي تَكرار بعضها بأساليبَ مختلفةٍ، ولهذه القصص أغراض عدة، منها:
أولاً: التذكرة والاعتبار: وذلك كقصص الظالمين ونهاياتهم، والمستكبرين ومآلاتهم؛ للتحذير من سلوك مسلكهم، ومنها قصص: قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون، والنمرود بن كنعان، وبلعام، وصاحب الجنتين.

وجاء في بعض هذه القصص النصُّ على أن من أغراضها التفكُّرَ والاعتبار، كما في قصة بلعام الذي أنعم الله - تعالى - عليه بآياته، فانسلخ منها، واتَّبع هواه؛ إذ ختمها الله - سبحانه - بقوله - عز وجل -: {فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، ولما قص - سبحانه - في "الأعراف" قصص آدمَ ونوحٍ وهود، وصالح ولوط وشعيب - عليهم السلام - ذيل ذلك بقوله - عز من قائل -: {تِلْكَ القُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]، وفي قصة حشر بني النضير - حصارهم - قال الله تعالى فيها: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2].

وفي الإشارة إلى غزوة بدر في أوائل آل عمران؛ قال الله - تعالى -: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13].

وختم الله تعالى قصة يوسفَ - عليه السلام - بقوله - عز وجل -: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].

ويدخل في ذلك قصةُ إبليسَ اللعينِ مع أبينا آدمَ - عليه السلام - لنحذر من إغوائه لنا، ونعتبر بما حصل لأبينا - عليه السلام - لما أطاع إبليسَ، فلا نطيعه؛ بل نتَّخذه عدوًّا؛ {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

ثانيًا: التسلية والتثبيت: وهي قصص الابتلاء، كابتلاء الأنبياء وأتباعهم بالمكذِّبين والظالمين، وابتلاء بني إسرائيل بفرعون، وما جرى لهم على يديه من الذلِّ والهوان، وابتلاء يوسف - عليه السلام - وقد ذكر الله - تعالى - قصصَ جملةٍ من رُسُله - عليهم السلام - في سورة هود، ثم ختم ذلك بقوله - عز وجل -: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]، وختم - سبحانه وتعالى - قصة نوح وما جرى له مع قومه، بقوله - عز وجل -: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، وقال - عز وجل - في فاتحة قصة يوسف - عليه السلام -: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، وختمها بقوله - عز وجل -: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102].

ثالثًا: الاقتداء والتأسي: كقصص الأنبياء والصالحين في ثباتهم على الحق، وصبرِهم على الدعوة، وتحمُّل أذى المؤذين في ذات الله - تبارك وتعالى - وهكذا التأسي بهم في توكُّلهم ويقينهم، وثقتِهم بربِّهم - عز وجل - وكذلك اتِّباع هديهم في عباداتهم ومعاملاتهم، وزهدهم وأخلاقهم، وقد ذَكَرَ الله - تعالى - في الأنعام قصةَ إبراهيمَ - عليه السلام - ومباهلته لقومه، وأعقبها بالثَّناء على جملة من الأنبياء - عليهم السلام - ثم ختمها - عز وجل - بالأمر بالتأسي بهم؛ فقال - سبحانه -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقال - سبحانه - في قصة أهل الكهف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

رابعًا: رفع الخلاف في مسائل كبيرة اختلف الناس فيها قبل إنزال القرآن: فجلاَّها الربُّ - جل جلاله - لعباده بما يزيل الخلاف، ومن ذلك قصة خلْق عيسى - عليه السلام - وولادته بلا أب، وطهارة أمِّه العذراء - عليها السلام - ورفعه إلى الله - تعالى - حيًّا في الدنيا، ونزوله في آخر الزمان حاكمًا بشريعة أخيه نبيِّنا محمدٍ - عليهما الصلاة والسلام.

وقصة مريم وعيسى - عليهما السلام - مما وقع فيه خلاف كبير بين طائفتي بني إسرائيل: اليهود والنصارى؛ ولذلك ختم الله - تعالى - هذه القصة العظيمة في آل عمران بقوله - سبحانه -: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [آل عمران: 60 - 62]، وقال - سبحانه - في شأن قصة مريم - عليها السلام -: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44].

فمن أكبر أغراض سياق قصة مريم وعيسى - عليهما السلام -: بيان الحق من الباطل فيما نسَجَهُ أهلُ الكتاب حولهما من القصص والأخبار، وقد قال الله - تعالى - في موضع آخر: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76].

ولو تأمَّلنا في أحوال الناس وحاجاتهم، لوجدنا أن الخطيب محتاجٌ إلى كل هذه الأغراض الهادفة من قصص القرآن، وأن من شأنها إصلاحَ أحوال الناس، والخطيبُ إنما يريد من الناس أن يعتبروا ويتَّعظوا، وفي ذكر مآل المكذِّبين وعاقبة الظالمين أبلغُ عظةٍ وعِبرة.

والخطيب محتاج إلى تثبيت الناس على إيمانهم، مع كثرة فتن السراء والضراء التي لا يكاد يَسلَم منها أحد في زمننا هذا، وفي ذكر قصص ثبات الأنبياء وأتباعهم تثبيتٌ لقلوب المؤمنين.

والخطيب يريد هداية من يستمعون إليه، وتأسِّيَهم بالصالحين من البشر، وفي ذِكر قصص الأنبياء وأتباعهم حثٌّ على الاقتداء بهم.

والخطيب لا يعرض في خطبته إلا ما يعتقد أنه صدق وحق، ويجب أن يربِّيَ الناس على تلمُّس الصدق، واتِّباعِ الحق، وقصصُ القرآن قد جلَّت لنا الحقائق، وبيَّنتِ الكذبَ والغبش في قصص السابقين.

تعامُل الخطيب مع قصص القرآن:
المتأمل للقصص القرآني يجد أنها مِن حيث مَن تتناوله القصةُ على أقسام ثلاثة:
القسم الأول: قصص الأنبياء - عليهم السلام -: ومنها قصص تكررت في أكثر من موضع، وهي غالب قصص الأنبياء - عليهم السلام - مع أقوامهم، إضافة إلى قصة آدم - عليه السلام - مع إبليس، ومنها ما لم يتكرر؛ بل جاء في موضع واحد من القرآن، سواء كانت القصة طويلة، كقصة يوسف - عليه السلام - أم كانت قصيرة، كقصة إلياس - عليه السلام.

القسم الثاني: قصص السابقين من غير الأنبياء - عليهم السلام -: مثل: أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين، وذي القرنين، وأصحاب الجنة في سورة القلم، وقصة مريم - عليها السلام - في سورتي آل عمران ومريم.

القسم الثالث: قصص للنبي - عليه الصلاة والسلام -: مثل غزواته: بدر في الأنفال، وأُحُد في آل عمران، والخندق وقريظة في الأحزاب، وبني النضير في الحشر، والحديبية في الفتح، وتبوك في التوبة، وإيلائه من نسائه في التحريم، وقصة زواجه من زينب في الأحزاب.

أما من جهة طول هذه القصص وقصرها، فهي على أقسام ثلاثة أيضًا:
القسم الأول: قصص قصيرة:
وهي قليلة، مثل: قصة إلياس - عليه السلام - في سورة الصافات، وقصة يونس - عليه السلام - في سور يونس والأنبياء والصافات، وقصة أيوب - عليه السلام - في سورتي الأنبياء وص، وقصة أصحاب الأخدود في البروج، وقصة الذي انسلخ من آيات الله - تعالى - في الأعراف، فهذه القصص وأمثالها يكفي الواحدة منها خطبة واحدة بدروسها وفوائدها، وإن قصرت عن ذلك، فلا تخلو من حالين:

الأولى: أن يجد الخطيب لها في السنة والآثار ما يزيدها، بحيث تصلح خطبةً كاملة.

الثانية: ألاَّ يجد الخطيب في السنة والآثار شيئًا، وحينئذٍ لا بد أن يضع الخطيب مدخلاً مناسبًا لخطبته يغطي النقصَ الذي عنده.

مثال ذلك: يصدِّر الخطيب خطبته بالحديث عن منزلة الأنبياء عند الله - تعالى - وفضْلِهم على البشرية، وسيجد نصوصًا كثيرة في ذلك، ثم يأتي على قصة النبي الذي اختاره.

فإنْ اختار أن يخطب عن قصة أيوب - عليه السلام - صدَّر خطبته بالحديث عن ابتلاء الله - تعالى - لأنبيائه وعباده الصالحين، أو عن فوائد الأمراض، ويجعل قصة أيوب - عليه السلام - وصبْرَه مع شدة ما أصابه من البلاء مثالاً لذلك.

وهكذا في قصة يونس - عليه السلام - يتكلم عن الابتلاء والصبر، أو الكرب ودعاء المكروب.

وما من قصة إلا سيجد الخطيب لها مدخلاً يناسبها، بحيث لا تقصر عن أن تكون خطبة كاملة.

القسم الثاني: قصص متوسطة:
وهي الأكثر في القرآن؛ مثل قصص هود وصالح ولوط وشعيب - عليهم السلام - فهي وإن تكررت في الأعراف وهود والشعراء، وغيرها، فإنها ليست طويلة في كل المواضع التي تكررت فيها، بحيث لو جمع الخطيب ما يتعلَّق بها من تفصيلات في كل موضع من القرآن، لناسَبَ أن يجتمع منها خطبة واحدة، فإن طالتْ فخطبتان.

وقريب منها قصص أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين، وذي القرنين، وأصحاب الجنة في سورة القلم.

القسم الثالث: قصص طويلة جدًّا:
لا يمكن للخطيب أن يعرضها في خطبة واحدة، وإلا لأطال على الناس كثيرًا، وذلك مثل قصص آدم ونوح وإبراهيم ويوسف - عليهم السلام - وأطول منها قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون، فقد أبدى فيها القرآن وأعاد، وكرَّرها مطولة في الأعراف، وطه، والشعراء، والقصص، وغافر، وجاءت أقلَّ من ذلك في يونس والنمل، وجاءت مختصرة في هود، والإسراء، والذاريات، والنازعات.

والمتأمِّل في هذه القصة العظيمة، يلاحظ أن تكرارها لا يخلو من فوائدَ وتفصيلاتٍ يكمل بعضُها بعضًا:

ففي سور طه والقصص: تفصيل لولادة موسى - عليه السلام - ونشأته في بيت فرعون، وكيف كان ذلك.

وفي الأعراف ويونس وطه والشعراء: مناظرة موسى - عليه السلام - لفرعون، وقصة السحرة، وانتهاء أمرهم إلى الإيمان، وقيام حُجة موسى - عليه السلام - على فرعون.

وفي سورة غافر: قصة الرجل المؤمن الناصح، الذي آزر موسى - عليه السلام - ودعا فرعون إلى الإيمان، ومناظرته له في ذلك.

وهناك قصص أخرى لموسى - عليه السلام - مع بني إسرائيل، ومعالجته لعنادهم وعنَتِهم، وصبره - عليه السلام - عليهم، وقد جاء تفصيل ذلك مطولاً في البقرة والأعراف وطه، وأيضًا قصته - عليه السلام - مع الخضر - رحمه الله تعالى - في سورة الكهف.

فهذه القصص المكررة الطويلة لا يحسُن بالخطيب أن يُعْرض عنها كليةً لما فيها من الطول، ولا أن يَعْرضها بطولها فيثقل على الناس، وسيكون ذلك على حساب الدروس والفوائد المستخرجة منها؛ ذلك أن الغرض الأكبر من عرض هذه القصص على الناس استخلاصُ العِبَر والدروس؛ للعبرة والاقتداء.

وقد يعمد بعض الخطباء إلى اختيار موضع واحد من القرآن وردت فيه القصة، فيسوقها كما وردت فيه، مع استخلاص العبر والدروس من ذلك الموضع، وهذا حسن، إلا أنه لا يتأتَّى في المواضع التي جاءتْ فيها القصة مطولة؛ مثل الأعراف وطه والشعراء والقصص، وإلا لأطال على الناس، كما أن فيه إهمالاً لتفصيلاتٍ كاشفة لأمور مهمة من القصة جاءت في مواضعَ أخرى، مع الحاجة إلى ذِكرها.

والذي أراه مناسبًا في مثل هذه القصص الطويلة العظيمة أن يتبع الخطيبُ الخطواتِ التاليةَ:
أولاً: أن يجتهد الخطيب في جمْع كلِّ ما يتعلق بالقصة من آياتٍ، في كل المواضع التي وردت فيها، ولو كانت طويلة جدًّا.

ثانيًا: يضم إليها ما صحَّ من الأحاديث عن النبي - عليه الصلاة والسلام - مما له تعلُّقٌ بالقصة أو بعض أجزائها.

ثالثًا: يراجع كتب التفسير، وشروح الحديث، وكتب التاريخ، وقصص الأنبياء، فيجمع منها ما زاد على ما وجده في الآيات والأحاديث من كلام الصحابة أو التابعين، مما هو كاشف لبعض المواضع التي فيها غموض، أو فيه جمعٌ لما ظاهِرُه التعارضُ.

رابعًا: عليه أن يجتنب الإسرائيليات في ذلك؛ لأنها ستطيل بحثه بلا طائل، ولأن التفصيلات الموجودة فيها - وإن هفت النفوس إليها - لا دليل عليها، ولا يحلُّ للخطيب أن يفتن العامة بها، فكثيرٌ من الناس لا يفرِّقون بينها وبين ما جاء عن النبي - عليه الصلاة والسلام - وليس لهم دراية في التعامل مع أخبار بني إسرائيل، وبمجرَّد سماعهم لها من الخطيب سيحملونها على محمل التصديق والتسليم.

وهناك كُتُبٌ حذَّرت من بعض ما جاء في الإسرائيليات من تفصيلات، وبيَّنت ما فيها من معارضة للقرآن والسنة، وكتب أخرى عُنِيَتْ بما صح من تفصيلات هذه القصص، وردِّ ما لم يصحَّ منها، وهذه الكتب مما يعين الخطيبَ في بحثه، ويزيد من عِلمه بقصص القرآن، ويقوِّي مَلَكَةَ النقد لديه.